قمع العمل الإغاثي.. كيف تحوّل النشاط الإنساني إلى تهمة في مناطق ميليشيا الحوثي؟

قمع العمل الإغاثي.. كيف تحوّل النشاط الإنساني إلى تهمة في مناطق ميليشيا الحوثي؟
عناصر تابعة لميليشيا الحوثي

في وقتٍ تتزايد فيه الحاجة إلى المساعدات الإنسانية في اليمن، تتسع رقعة الانتهاكات التي تمارسها ميليشيا الحوثي ضد منظمات العمل المدني والهيئات الإنسانية الدولية العاملة في مناطق سيطرتها، في مشهد يعيد البلاد إلى دائرة الانغلاق ويقوّض آخر ما تبقى من مساحة للعمل الإنساني والحقوقي المستقل.

وقد حذّرت منظمة ميون لحقوق الإنسان والتنمية من حملة مداهمات واعتقالات واسعة تنفذها الأجهزة الأمنية التابعة للحوثيين بحق قيادات مدنية ومراكز بحثية، من بينها مركز "دال" للدراسات الاجتماعية في صنعاء، ومقر الهيئة الطبية الدولية، بحسب موقع “تهامة 24”، وهو ما يعكس تصعيداً خطيراً في سياسة الجماعة تجاه المجتمع المدني والمنظمات الدولية.

وقائع الاعتقالات والمداهمات

جاءت أبرز هذه الانتهاكات مع اعتقال ثلاثة من قيادات التحالف المدني للسلم والمصالحة الوطنية، وهم البروفيسور حمود العودي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء، والمهندس عبد الرحمن العلفي، وأنور خالد شعب، بعد مداهمة مقر مركز "دال" الذي يرأسه العودي.

وأكدت منظمة ميون أن عملية الاعتقال تمت دون أي مسوغ قانوني، وأن المحتجزين مُنعوا من التواصل مع أسرهم ومحاميهم، في مخالفة صريحة للدستور اليمني وللقانون الدولي الإنساني الذي يضمن حرية الفكر والتنظيم المدني.

كما اقتحمت جماعة الحوثي، اليوم الثلاثاء، مقر الهيئة الطبية الدولية (International Medical Corps) في شارع الخمسين بصنعاء، واحتجزت عدداً من الموظفين المحليين، وصادرت معدات وأجهزة خاصة بالمؤسسة.

وتُعد هذه الهيئة من أبرز المنظمات الطبية العاملة في اليمن منذ أكثر من 14 عاماً، وتقدم خدماتها لأكثر من 20 مرفقاً صحياً في العاصمة ومحافظات إب والحديدة وتعز، وهو ما يجعل توقف نشاطها المحتمل ضربة قاسية للقطاع الصحي المنهك أصلاً.

دوافع سياسية وأمنية

يرى مراقبون أن تصاعد الهجمات الحوثية ضد المنظمات المدنية يأتي ضمن سياسة ممنهجة للسيطرة على المجال العام وتكميم الأصوات التي لا تخضع لسلطة الجماعة.

فمنذ سيطرتهم على صنعاء عام 2014، عمد الحوثيون إلى تضييق مساحة العمل المدني عبر فرض قيود على تسجيل الجمعيات، وإخضاع التمويلات الخارجية للموافقة الأمنية المسبقة، وصولاً إلى استبدال القيادات المنتخبة بمندوبين موالين للجماعة في النقابات والمؤسسات المدنية.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الجماعة احتجزت أكثر من 110 موظفين من وكالات أممية ومنظمات دولية ومحلية منذ بداية عام 2024، معظمهم في ظروف غير معلومة، بتهم وصفتها مصادر حقوقية بأنها ملفقة ومبنية على دوافع سياسية.

التداعيات الإنسانية

تأتي هذه التطورات في ظل وضع إنساني هو الأسوأ عالميًا؛ إذ يعيش أكثر من 21 مليون يمني، أي ثلثي السكان، في حاجة إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية وفق بيانات الأمم المتحدة.

ويُعد تعليق أو تقليص عمل المنظمات الدولية بسبب القيود الحوثية خطرًا مباشرًا على حياة ملايين اليمنيين الذين يعتمدون على المساعدات الغذائية والطبية للبقاء على قيد الحياة.

وقد حذرت الهيئة الطبية الدولية من أن الاقتحامات المتكررة تهدد بإغلاق مشاريعها الصحية في العاصمة، وهو ما يعني حرمان نحو 1.2 مليون شخص من الخدمات الأساسية.

وفي السياق نفسه، أبلغت منظمة الصحة العالمية ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) عن عرقلة متزايدة لأنشطة الإغاثة في مناطق الحوثيين، بما في ذلك تأخير إصدار تصاريح الحركة، وتدخلات في عمليات التوظيف، ومضايقات بحق العاملين اليمنيين.

ردود الفعل المحلية والدولية

أدانت منظمة ميون لحقوق الإنسان في بيانها ما وصفته بـ"الإصرار الحوثي على تدمير ما تبقى من العمل المدني، وتحويل المجتمع إلى مساحة مغلقة ذات صوت واحد"، مطالبة بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين والمخفيين قسراً من النشطاء والعاملين في المنظمات الإنسانية.

وفي السياق ذاته، عبّرت منظمة العفو الدولية عن قلقها البالغ من استمرار القيود التي تفرضها الجماعة على حرية تكوين الجمعيات والتجمع السلمي، معتبرة أن العمل المدني في مناطق سيطرة الحوثيين يواجه واحدة من أسوأ موجات القمع في المنطقة.

أما هيومن رايتس ووتش، فقد أكدت في تقريرها السنوي لعام 2025 أن الحوثيين يديرون شبكة قمع ممنهجة تشمل الاعتقال التعسفي والتعذيب ومصادرة الممتلكات واستهداف المنظمات الدولية بهدف إخضاعها لسيطرة الجماعة السياسية.

ومن جانبه، شدد مكتب المبعوث الأممي إلى اليمن على أن التضييق على منظمات المجتمع المدني يقوض فرص الحل السياسي، ويزيد من هشاشة البيئة الإنسانية، داعياً إلى احترام التزامات اليمن بموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.

إغلاق الفضاء المدني

منذ اندلاع النزاع اليمني عام 2014، أصبحت المنظمات المدنية والعاملون الإنسانيون ضحايا غير مرئيين للحرب، ففي السنوات الأولى، واجهت المنظمات تحديات أمنية ميدانية بسبب القتال والانقسام، لكن منذ عام 2019 بدأت سياسة جديدة لدى الحوثيين تستهدف تفكيك البنية المدنية التي كانت تشكل نواة النشاط المجتمعي في البلاد.

تمثلت هذه السياسة في إغلاق مكاتب منظمات تنموية، وتجميد تراخيص الجمعيات النسوية والحقوقية، وإجبار بعضها على تغيير لوائحها الداخلية، إلى جانب فرض ضرائب وإتاوات على التمويلات الخارجية.

وفي عام 2023، طالت الاعتقالات أكثر من 70 ناشطًا ومدافعًا عن حقوق الإنسان في صنعاء والحديدة وصعدة، وفق تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

القانون الدولي وواجب المساءلة

تعتبر الاعتقالات التعسفية ومداهمة مقار المنظمات المدنية انتهاكًا صارخًا للمواثيق الدولية التي صادق عليها اليمن، منها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 22) التي تكفل حرية تكوين الجمعيات، واتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم أطراف النزاع باحترام وحماية العاملين الإنسانيين.

كما تندرج هذه الأفعال ضمن الجرائم المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية باعتبارها أفعال اضطهاد ضد مجموعات مدنية لأسباب سياسية.

وطالبت منظمات حقوقية دولية بضرورة فتح تحقيق دولي مستقل في انتهاكات الحوثيين بحق العاملين في المجال الإنساني، وضمان عدم إفلات الجناة من العقاب، مشددة على أهمية الضغط الدبلوماسي لحماية ما تبقى من الفضاء المدني في اليمن.

الأبعاد الإنسانية والاجتماعية

تنعكس هذه الانتهاكات بشكل مباشر على المجتمع اليمني، الذي يعاني أصلاً من انهيار اقتصادي واسع النطاق، إذ يعيش نحو 80% من السكان تحت خط الفقر، وتواجه النساء والفتيات صعوبات متزايدة في الحصول على الخدمات الأساسية بسبب تراجع نشاط الجمعيات النسوية والإغاثية.

ويؤكد ناشطون إنسانيون أن العمل المدني لم يعد ممكناً إلا في حدود ما تسمح به سلطات الأمر الواقع، في ظل تهديدات متكررة بالاعتقال والملاحقة.

ما يجري اليوم في مناطق سيطرة الحوثيين لا يمثل فقط انتهاكاً للقانون، بل تجريفاً متعمداً للذاكرة المدنية اليمنية التي صمدت عقوداً في وجه الحروب والاضطرابات.

إغلاق المراكز الفكرية، واعتقال الأكاديميين، واقتحام مقار المنظمات الإنسانية، لا يهدد فقط العاملين في تلك المؤسسات، بل مستقبل اليمن بأسره، لأنه يقطع آخر خيوط التواصل بين المجتمع والدولة، ويحوّل العمل الإنساني إلى جريمة في بلدٍ يعيش واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية